وأبتسم

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

أنظر إلى الماضي، فأرى واقعي نتيجةً حتميّةً، حيث اجتمعت الظّروف السّيئة في مكانٍ لا يمكن وصفه بيتًا، وعائلةٍ لم تنجح يومًا بأن توطّد خيط الحبّ والتّفاهم بين أفرادها. ظروفٌ تخطّاها الفقر، فأصبح الحلم به رفاهيّةً.

بالكاد أكملت تعليمي الإبتدائي، فلم يكن هناك من يهتم بي أو يحتضنني. عائلتي عبارة عن أبٍ مشلول ووالدة تعمل في الخدمة المنزلية فتمضي نهاراتها خارج البيت. فكان لا بد لي أن أعيل نفسي. صرت أعمل بما توفّر لي من أجر. وكنت كلما حصلت على النقود، تعرّضت للضرب وللشّتائم لأنّني، وبحسب والديّ، كنت بدأت أتحوّل إلى فتاة شارع…

في الخامسة عشرة من عمري تعرضت للإغتصاب. اغتصاب أثمر طفلاً لم أره ولو للحظة، فقد وجد أهلي من يتبناه. كنت أرى نفسي طفلةً تشتاق لطفلها، وكنت بنظر أهلي امرأة مسؤولة عن فعلٍ جلب لهم العار. فصرت أرضًا خصبة للمزيد والمزيد من التعنيف والنبذ، إذ حمّلت مسؤولية ما حصل معي.

بين شعوري بالحزن من جهة والخوف من هذا الواقع الجديد من جهة أخرى، كانت حالتي النّفسيّة تزداد سوءًا. أصبحت عرضة لانهيارات ونوبات عصبية، فجاء الحل بإبعادي إلى “دير الصّليب” ومنها إلى مصحّ “للأمراض العقليّة”. لا أحد في العالم يعرف بقدري، أنّني لست مجنونة بل طفلة مغتصبة تُركت لتعيش مصيرها المأساوي.

لم أستطع أن أتحمّل المعاناة، فهربت من المؤسسة، لكنّني لم أعد الى منزل. فضلت العيش بعيداً عن أسرة اغتصبتني فوق اغتصابي. عائلة كنت أتوقع مِنها دفئاً، حناناً، عاطفة، احتواءً، فإذا بها لا تقدّم لي سوى عدم الحماية، بل تعرّضني، هي نفسها، للخطر والمهانة. لجأت إلى الشّارع لأواجه المجهول مرّة أخرى. تعرّفت إلى مجموعة من الأشخاص، عملت لحسابهم، أمارس الجنس بمقابل.

لم أحصل مِن عملي هذا سوى على ما يسد رمقي ويبقيني حيّة. تحمّلت حتى فاض بي الألم، فكنت “عبدة” لهذه الجماعة أنفّذ ما يطلب مني وإلا فمصيري العقاب.. نجحت أخيراً بالهرب، وقرّرت أن أبدأ العمل في المجال نفسه، ولكن لحسابي الخاص. وبدأت الرحلة الطويلة…

خلال تلك المرحلة، كنت عرضة لشتّى انواع الإساءات من ضرب، سرقة وإهانات. وحزنت على أشخاص تورّطت في حبّهم وتعلّقت بهم ، ولم ألقى منهم سوى الإستغلال. كنت أريد حضناً صادقاً، يحبّني لذاتي، يشعرني بالأمان، بالعاطفة التي حرمت منها طوال حياتي، فلم يكن لي ما أردت.

المشكلة كانت حين تلتقي عيناي بعيون النّاس الآخرين، فتعرّيني وتتّهمني وتحاكمني فأصبح ضعيفةً، وحيدةً، كأنّني أحمل ثقل خطايا العالم في قلبي. ولكي أتجاوز كل تلك المصاعب، لجأت إلى الكحول والتّدخين، كوسائلَ للهروب من واقعي المرير، أعيش معهما وهم قوّتي.

وبرغم خوفي من نظرات النّاس وحكمهم عليّ، الاّ أنّني لم أختبر قط الشّعور بالمهانة والإحتقار كما حدث لي في ذلك اليوم…

كنت قد بدأت حياةً جديدةً. تزوّجت وأصبحت أواظب على إجراء فحوصات دوريّة في مستوصف في المنطقة التي أسكن فيها. وفي إحدى زياراتي، تفاجأت بوجود امرأة أعرفها، تعمل كموظّفةٍ تستقبل المرضى وتنظّم مواعيد دخولهم إلى الطّبيب. كانت جارتي قبل أن أتزوّج. وكانت تعرف عنّي وعن عملي، ولم أكن قد التقيت بها منذ زمنٍ بعيد. هي بدورها تفاجأت بي، وجفلت لدى رؤيتي. تقدّمت وطلبت منها أن تأخذ لي موعدًا للمعاينة. رفضت بطريقة فظّةٍ وقاسيةٍ، مدّعية بأنّ الطّبيب غير موجود. فطلبت منها تحديد موعد في يوم آخر، فتعذّرت بأن لا مكان لي، لأن جدول المواعيد مكتملٌ. وسمعتها تهمس في أذن زميلة لها كلامًا قبيحًا عنّي وتضحكان بسخرية.

أحسست بالإهانة والقهر. لكنّني لم أفعل شيئا ولم أعترض، خفت من أن يتطوّر الجدال بيننا ويعرف الجميع هويّتي. وفضّلت الذّهاب إلى مستوصف آخر. معاملتها لي أعادتني إلى ماضٍ لا أريده أن يستعاد حتى ولو بالذاكرة. كانت تعاقبني بسخريتها وبنظراتها المشبعة بالاحتقار. تذكّرت أهلي وعقابهم، فبكيت من الحاضر والماضي.

استمر زواجي، واستمرت أحوالنا الماديّة تزداد صعوبة بعد انجابي لثلاثة أطفال والعمل القليل. بدأت أسعى للتعرّف إلى جمعيّاتٍ تقدّم المساعدات للمحتاجين. وفي طريق بحثي وسعيي، التقيت بمدير إحدى الجمعيّات. وأخبرته عن وضعي ووضع أسرتي، فحدّد لي موعدًا لزيارة الجمعيّة للاستفادة من الخدمات التي تقدمّها، من ثيابٍ للاطفال وألعابٍ ووجبات طعامٍ أسبوعية.

وصلت في الموعد المحدّد، استقبلني المدير وهو رجل دين. رحّب بي، ومنحني حرّية إختيار ما أحتاجه، وطلب مني مرافقته الى مستودعٌ في الطابق سفليّ تحت الأرض.

نزلت معه وكنّا وحدنا. إخترت ما أحتاجه وكنت سعيدة بهذه الكمّية من الأغراض التي ستكفي أطفالي مدّة طويلة.

شعرت به يقترب مني حتّى كاد جسده يلامس جسدي. أخبرني بأنّ هذه الخدمة لم تتوفّر لغيري من قبل. فهو لا يترك أبدًا للمستفيدين من تقديمات الجمعيّة حرّية اختيار ما يريدون. وبأنه خصّني بمعاملة مميّزة. كان يتحدث إليّ و يقترب منّي أكثر وأصبحت ملامسته لي ورغبته أكثر وضوحّا. وبصراحة كاملة، طلب مني علاقة جنسيّة كردّ للجميل على خدمته الإنسانية. وقت قصير وانتهى كلّ شيء. هو حصل على المتعة التي أرادها بينما حصلت أنا على شعور بالخزي لن انساه ما حييت. علاقة لم أرغب بها أبدًا. خفت أن أرفضها، بسبب حاجتي الماسّة للمساعدات، وأيضًا بسبب خوفي منه اذا ما اعترضت، أن يقوم بطردي ويتّهمني علنًا بأنّني أنا التي تفتقد الى الأخلاق، وبأنّني حاولت استغلال موقعه للحصول على تقديمات اكثر. خفت إذا شكوته أن لا يصدّقني فماضي لن يكون أبدًا صفحة منسيّة.

ذهبت إلى تلك الجمعيّة وتلقّيت المساعدة. لكنّي أيضا دُمغت بوصمةٍ لن تنتهي. ستسّهل على أقوياء أخرين استغلالي كلّما كنت بحاجة للمساعدة. تجاهلت لوقت قصير الإهانة والشعّور بالضّعف والإستغلال، وأملي ضعيفٌ بأن أجد يومًا من يقرّر أنّ من حقّي أن أكون إنسانًة يُنظر إليّها بصفتها المجرّدة، دون وضعها بشكلٍ دائمٍ في خانة المخطئين الذين لا أمل من شفائهم. أعلم كلّ ذلك وأتألم. ثم أعود وأتخيّل أطفالي في هذا العالم القاسي وأراهم سعداء بما أحضرته لهم. وأبتسم…

هذه القصة هي جزء من سلسلة قصص مستوحاة من واقع حياة عدد من السيّدات في لبنان يتم نشرها ضمن إطار مشروع “دعم حقوق النساء المهمّشات في لبنان”. يتم توثيق هذه الحالات من قبل كلٍ من جمعية العناية الصحيّة، جمعية عدل ورحمة وجمعية دار الأمل. تمّ تطوير هذه المنشورة بفضل دعم الشعب الأميركي من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). إنّ محتويات هذه المنشورة هي مسؤولية الإستشاري، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر أو آراء الوكالة الأميركية للتنمية أو حكومة الولايات المتحدة.

[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]