يوم باعني أبي
[vc_row][vc_column][vc_column_text]
لم يكن أحد يعرف ما يحصل لي. كنت أشعر بخيوطٍ من الألم تتجمّد في عروقي، تلسعني، تتمدّد داخل جسدي وتتوسّع، حتّى تصل إلى رأسي فيكاد ينفجر. قلبي مخدّر. أسمع أُمّي تصرخ ألماً كلّما ضربها. جسدُها تغطّيه الكدمات، أمّا عيناها فمنتفختين من شّدة البكاء. أسمع أختي تئنّ من ثقل جسده عليها، وأسمعه “هو” يئنّ من النشوة. أكتم صرخاتي حين يأتي دوري. أغمض عينيّ وأشعر بها، يده، تمتد تحت ثوبي، بأصابعها المشتعلة جمرًا، تنتزع سروالي الصّغير، وقد بلّلته من شدّة الخوف.
كنتُ أرى. كنتُ أعي. وكنتُ كذلك، أكتم صراخي خوفاً من ألمٍ أعظم.
اليوم، أنا إمرأة في الثّامنة والثّلاثين متزوّجة وهاربة من زوجي. أمٌّ لثلاثة أطفال لا أستطيع الإهتمام بهم، بسبب الفقر واضطراباتي العصبيّة الّتي تضطرّني لدخول مستشفى الأمراض العقليّة والعصبيّة باستمرار. أسكن حيًّا فقيراً من أحياء حيّ السلّم. أنظر إلى الوراء، فأرى قصّتي حكاية تُروى..
طفلة كنت حين باعني أبي خادمة وأنا بعمر السّبع سنوات إلى إحدى العائلات الميسورة. لم تكن سنوات سيّئة بأي حال. فقد عوملت جيّدًا. على الأقل، لم أتعرّض لأيّ نوعٍ من أنواع العنف الجسدي، إلاّ أنّني كنت طفلة بعيدة عن حضن أمّها. عدتُ إلى البيت صبيّة في الخامسة عشرة. وتذكّرتُ أنّ بين الجدران التي أمامي رجلا نسي دوره كأب، فعامل بناته وزوجته كبضاعةٍ مستعملة للبيع.
في تلك اللّيلة، سمعت صراخ أختي، وسمعت لهاثه الفائض برغبته القذرة. إجتاحني عويلها، فبدأت أصرخ حتى مزّق صوتي سكون الحيّ. وكانت النّتيجة أن زُجَّ بهذا الوحش في السّجن، لكنّ الفرحة لم تدم سوى أشهر قليلة، كُتب فيها مستقبل حياتي بأكمله. بدخوله السّجن كان علينا العمل. عملتُ في معملٍ للخياطة.
خرج بعد ثلاثة أشهر ليجد أن “همّ البنات ليس للمَمات” ، أصبحنا فرصة لكسب المال، فصرنا نعمل ونعطيه، نعطيه فيتحكّم أكثر، ويتجبّر أكثر ويطغى حتى الثّمالة. شفى غليله برؤيتنا نشقى، وروى شهوته بأجسادنا مرّة تلو أخرى. أمّا أنا، فكان له معي حساباً آخر، إذ كان همّه أن أنال القصاص الّذي أستحقّ…
كاد أن يكون عادياً ذلك اليوم الذي سمعتُ فيه خطوات أبي يدخل البيت. فتح خزانتنا اليتيمة. أخرج منها ثوبي الذي وصل إليّ صدقة من أحد سكّان الحي، قذفني به، ثم أمرني أن أرتديه بسرعة. لبستُ الثوب أمامه. فدفعني من الباب خارجًا، لأجد “زبونًا” ينتظر ليأخذ “البضاعة” التي اشتراها بسعرٍ بخس. هكذا وجدتُ نفسي أعيش مع رجلٍ غريبٍ، يعذّبني ويغتصبني كما يحلو له. أنجبتُ منه طفلةً. رفض الإعتراف بها، فعرضها للتّبني، ولم أعد أعرف عنها شيئًا. تخلّى عنّي، فعدتُ إلى منزل أهلي، لأجد أنّه غير مرحّبٍ بي. فمٌ إضافيّ لا يريد أبي إطعامه.
شرّ أبي لا ينضب. وحلوله سريعة متى تراءت له القروش في يد أحدهم … باعني إلى رجلٍ آخر. عجوز يكبرني بسنواتٍ كثيرة، لكن هذه المرّة خرجتُ من البيت بعقد زواج.
إنتقلتُ للسّكن مع زوجي في غرفة أرضها من تراب، تفوح منها رائحة القاذورات البشرية. في شبه الغرفة تلك، أنجبت أولادي الثّلاثة وفيها أيضاً بدأت أحصل على النّقود كعاملة جنس، بعد أن أُصيب زوجي بالشّلل.أُصبتُ بحالات من الإنهيار العصبي المتكرّرة. فصرت أعنّف أولادي وأهملهم، وأخرج مع من يعطيني المال، حتّى اكتشفت بأنّي حامل، والأب طبعًا مجهول.
بدأتُ أبحث عن حلٍّ للتّخلّص من الجنين إذ كان من المستحيل أن أحتفظ به.
شكوتُ مشكلتي لصديقةٍ لي، فأخبرتني عن طبيبٍ يساعد النّساء الّلواتي يحملن خارج الزّواج، ويجري لهنّ عمليات إجهاضٍ في عيادته بشكل سرّي. فلم يكن أمامي سوى الّلجوء إليه لمساعدتي على التّخلّص من الجنين. وبات همّي الوحيد، هو التّفكير بطريقة أحصل فيها على مبلغ من المال، أعطيه بدلاً للطّبيب، مقابل إجرائه عمليّة الإجهاض. لكّن الصّديقة نفسها اقترحت عليّ أن أزوره وأعرض عليه وضعي ثمّ نقرّر لاحقًا الطّريقة الّتي نؤمّن بها المال. وهذا ما حصل…
زرتُ الطّبيب. بدا لطيفاً ومتفهّمًا، وأبدى رغبته الخالصة في حل مشكلتي على وجه السرعة. لكن ما إن أخبرته عن حالي، وفيما كنتُ أستوضح منه كم من الوقت أستطيع تأجيل العمليّة ريثما أتمكّن من تجميع المبلغ المطلوب، وما إذا كان قادرًا على تخفيض ذلك المبلغ لأنّني لا أملك منه قرشاً، حتّى تغيّر كل شيء. لم يعد ذلك الطبيب المتفهّم والمعين. بدأ يجد الحجج والتّبريرات، وبأنّه يجري هذه العمليات بشكل سرّي ما يحمّله مسؤولية كبيرة لا تخلو من الخطورة، ولا بد لي أن أقرّر بسرعة لأنّه ليس من مصلحتي أن أتأخّر في إجهاض الجنين.
لم يكن أمامي وأنا لا أملك شيئًا، إلاّ الخروج من العيادة خائبة. لم يسمح لي بالمغادرة. أمسكني من يدي، شدّني إليه، وبدأ بملاطفتي. لامسني هامساً في أذني كلمات بشعة، يخبرني فيها بأنّ أمثالي من النّساء لا يجب أن يرفضن مساعدة طبيب للتّخلص من مشاكل أوقعن أنفسهنّ بها لأنهنّ أردن الإستمتاع. أمسكني في الأماكن الحميمة في جسدي. بانت في عينيه تلك الشّهوة المقزّزة عينها التي سبق وخبِرتُها. أبصرته يسير باتّجاه باب العيادة، أقفله وعاد إليّ. لم أصرخ. لم أقاوم. عاد إليّ ذلك الشّعور القديم بالخدر. أغمضت عينيّ وأنا أسمع ألفاظًا بذيئة تخرج من فمه وتزيده رغبة. ألقى بجسدي على سرير العيادة، وقال لي إنّني لا أملك الخيار، وأنّ هذه الطّريقة الوحيدة الّـتي يستطيع أن يساعدني بها. فعرفت أن هناك ثمنًا آخر أستطيع أن أدفعه بدلاً من النّقود. لم أرفض. لكنّني عرفت أن أبي موجود في كل الأمكنة، لكن بوجه مختلف.
بقلم: هدى أبو شقرا
“ّهذه القصة هي جزء من سلسلة قصص مستوحاة من واقع حياة عدد من السيّدات في لبنان يتم نشرها ضمن إطار مشروع “دعم حقوق النساء المهمّشات في لبنان”. يتم توثيق هذه الحالات من قبل كلٍ من جمعية العناية الصحيّة، جمعية عدل ورحمة وجمعية دار الأمل. تمّ تطوير هذه المنشورة بفضل دعم الشعب الأميركي من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). إنّ محتويات هذه المنشورة هي مسؤولية الإستشاري، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر أو آراء الوكالة الأميركية للتنمية أو حكومة الولايات المتحدة”.
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]