قصة ندى … عندما يصبح إبني كبيرا
[vc_row][vc_column][vc_column_text]
إسمي ندى.. هذا ما أخبرني به كل من رأى بطاقة هويتي. أنا لا أعرف القراءة والكتابة، ولم أنجح يومًا في تعلّمهما. لماذا لست متأكّدة من إسمي؟ لأنّني لم أسمع أحدًا من عائلتي يناديني به. فأنا بالنّسبة لهم كنت غبيّة البيت.
عندما يناديني أحدهم يقول لي يا “هبلة” وكنت أستجيب.
ولدت في بيتٍ يعجّ بالأولاد، كنّا أربع بنات وأربعة صبيان. كانت أحوالنا لتكون جيّدة لولا إدمان أبي المخدّرات، التي بسببها خسر عمله وبيته. وليؤمّن شراءها، أرسلنا نحن إلى العمل. عملنا كما أمّي خدمًا في البيوت، حتّى إخوتي الذّكور عملوا خدمًا، وفي نهاية كلّ شهر، كان يجول على البيوت التي نعمل فيها ليقبض أجورنا .
لا أذكر عدد المنازل التي عشت فيها. ما إن ننتقل إلى أحدها ونستقر، حتّى يطالبنا أصحابها بالمغادرة. والأسباب هي ذاتها، عدم دفع الإيجار، وكثرة الشّجارات التي تحصل في البيت، وتنتج عنها أضرارًا في ممتلكاتهم.
لم يسلم أحد منّا من عنف أبي وقسوته. كان يضربنا، فقط لأنّه يريد أن يضربنا. وأمّي لم تكن تفعل شيًئا، ربّما لأنّها كانت متعبة وضعيفة، وتدخّلها لن يحدث أي فارق. فهي أيضًا جرّبت عنفه، من ضرب وركل وغيرها، ونالت من قسوته ما نلناه وأكثر.
تزوّج أبي من امرأة ثانية, كان يأتي بزوجته لزيارتنا، وتبدأ الخلافات بين أمّي من جهة وزوجته من جهة أخرى. وتنتهي بالضّرب والصّراخ والشّتائم، وغالبًا ما كان الجيران يتدخلون للتّفريق بينهما. وفي النّهاية قرّر أن يتركنا ويرحل.
بعد ترك أبي لنا، بقي جوّ البيت على حاله. لا أحد يهتم بالآخر. وأنا بقيت كما أنا “الهبلة” التي لا نفع منها. عدت إلى فعل ما كنت أفعله دائمًا. فمنذ صغري حين يبدأ أبي بضربنا إعتدت أن أهرب وأغيب عن البيت لأيّام. لم يكن أحد يسأل عني، ولكن حين كنت أعود، أنال نصيبي من الضّرب والشّتائم ، فأشتاق سريًعا إلى عادتي، أترك البيت ثانية، أهرب. وأغيب. كنت أجد خارج البيت لحظات من السّلام لا أسمع فيها الصّراخ ولا أتعرّض للضّرب.
كنت أغادر البيت. وأعيش على الطّرقات. أنام على الصّخور قرب البحر. آكل ما يقدّمه لي الناس من طعام.
ذات يوم، عدت إلى البيت حاملاً. لم أكن أعرف ولا أدرك ما يحدث لي. لكنّ بطني كان يكبر، خفت ممّا يحدث، ولم أعرف حقيقته. حتى لاحظ الجميع حملي. ضربوني لحد التّعذيب وصرت منبوذة أكثر. لقد جلبت لهم العار.
أنجبت طفلاً، أرسلوه إلى دار للأيتام. عدت لعيش الحياة كما تعوّدتها. تكرّرت هذه القصّة مرّات كثيرة . كنت أحمل وأنجب الأطفال، ويضعون أطفالي في المياتم. وأنا لا أفهم ما يحصل لي. لذلك أدخلني أهلي إلى مستشفىً للأمراض العقلية. قالوا أنّني مجنونة. أنا كنت أرفض ذلك، فكل القصّة أنّني لا أحب أبي.لا أحب البيت، وأحب النّاس الذين يشفقون عليّ ويعطونني أشياء لذيذة.
في المستشفى، كان الجو يشبه جوّ بيتنا، والعاملون فيها يسخرون منّي، ويستلذّون بمناداتي بأسماء غريبة، “تعي يا خوتة، روحي يا خوتة”. كانوا يضربونني كثيرًا، ويصفونني بالقذرة. يربطونني ويجبرونني على قصّ شعري. ولم يكن أمامي إلاّ أن أصرخ وأبكي. لم أتحمّل معاملتهم القاسية والمؤلمة لي، نفذ صبري أخيرًا، وهربت.
عدت إلى البيت. وعادوا يعاملونني بالطّريقة نفسها. هربت، ومنذ ذلك الوقت، لم أعد أبدًا.
عشت كما في السّابق، على الطّريق.عانيت كثيرًا من التّشرد. كنت أجوع ولا أجد ما آكله. لكنّ النّاس في المنطقة التي التجأت اليها، ألفوا وجودي، وصاروا يساعدونني ويعاملونني بعطف. ويعطونني بعض المال أو الطّعام. ومنهم من كان يعطيني أشياء لم أعرفها. أشياء حين أشربها كنت أشعر بالسّعادة بعدها. وحين أكون سعيدة، كانوا يطلبون منّي أن أقوم بأمور لم أكن أفهمها أيضًا. وجدت نفسي دون علم منّي أعمل في الدّعارة. كنت صغيرة جدًا. وكثر عدد الرّجال الذين يعرضون عليّ المال أو الطّعام أو الكحول مقابل أن أمارس معهم الجنس. وكنت أفرح بما يعطونني إياه. وعندما كان يعطيني أحدهم المال، أشتري به شرابًا. صرت أسكر كثيرًا.
بقيت أعيش على الطرقات. وأخرج مع الزّبائن. أنام في الشّارع او على شاطيء البحر وفيه أستحم وأنّظف نفسي. وأحيانًا أنام عند من يفتح لي بابه.
في إحدى المرّات، رأتني امرأة في حالة سكر شديدة، إتّصلت بإحدى الجمعيات، وأخذتني اليها.
أدخلوني إلى الحمّام، ونظّفت نفسي، وأعطوني ملابس نظيفة وأطعموني، وأمّنوا لي مؤسسة لأعيش فيها. بقيت في تلك المؤسّسة ثلاث أيّام فقط وغادرتها، لم أرد أن أسجن داخل أربعة حيطان. ولم يستطع أحد إرغامي على البقاء، فدفعت الجمعية مالاً لإحدى النّساء لأسكن معها. وكان الشّرط أن لا أعود للعمل في الشّارع، وأن أذهب إلى الجمعية كلّ صباح، وأغادرها ظهرا ًعند انتهاء الدّوام.
بدأت أتعلّم بعض الأشياء، كتناول الطّعام بشكل لائق، وكيف أغسل يديّ أو كيف أرتّب الطّاولة قبل وبعد الأكل وغيرها من الأمور. ولكنني عدت الى الشارع من جديد..
خلال عملي في الدّعارة، سجنت كثيراً، كان الدّرك يقبضون عليّ في الشّارع، يسوقونني إلى السّجن، أبقى فيه مدّة ثمّ أخرج. جرّبت كلّ سجون النساء في لبنان، وفي مرّات كثيرة كانوا يحتجزونني في المخافر ثمّ يطلقون سراحي. في الإحتجاز كانت معاملتي رهنًا بمزاج الشّخص الذي يحتجزني، فمنهم من كان يشفق علي، ومنهم من كان يضربني. هم أيضًا كانوا يقولون عنّي “هبلة” ويسالونني:” كيف بتلاقي مين يضهر معك؟”
في مراحل حياتي المتشابهة، حملت وأجهضت وأنجبت أطفالاً، يرسلونهم إلى مؤسسات رعاية، ولا أعود أعرف عنهم شيئاً. ولكن في آخر حمل لي، رفضت أن أجهض، أردت أن أحتفظ بالطّفل، يكفي الأطفال الذين تخليت عنهم في حياتي. أنجبت إبني في مستشفًى حكومي. كنت امرأة لبنانيّة، غير متزوّجة، متروكة، عاملوني بطريقة مهينة، ولأنّني لا أعرف والد طفلي، رفضوا إعطائي ورقة من المستشفى تثبت أنّ الطفل لي. كنت أسمعهم يقولون” أيمتى رح نبطل نشوف كل هالوسخ؟”.
يعيش إبني اليوم في إحدى مؤسّسات الرّعاية، ويذهب إلى المدرسة كباقي الأطفال. أزوره باستمرار، ويبقى معي خلال العطل المدرسيّة. وأنا أعمل عاملة تنظيف في إحدى المدارس. لا أخرج مع زبائن، إلاّ عندما أكون بحاجة ماسّة للمال. أشياء كثيرة ما زلت لا أفهمها. وأحيانًا أخاف، أشعر أنّني بحاجة لمن يحميني ويدافع عنّي. لكّنّني أحلم بإبني وبغده. أنتظره حتى يصبح كبيرًا، ويعمل ويدافع عنّي ويصرف عليّ، وأرتاح أنا من هذا الشّقاء.
“هذه القصة هي جزء من سلسلة قصص مستوحاة من واقع حياة عدد من السيّدات في لبنان يتم نشرها ضمن إطار مشروع “دعم حقوق النساء المهمّشات في لبنان”. يتم توثيق هذه الحالات من قبل كلٍ من جمعية العناية الصحيّة، جمعية عدل ورحمة وجمعية دار الأمل. تمّ تطوير هذه المنشورة بفضل دعم الشعب الأميركي من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). إنّ محتويات هذه المنشورة هي مسؤولية الإستشاري، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر أو آراء الوكالة الأميركية للتنمية أو حكومة الولايات المتحدة”.
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]