عقاب منذ الولادة
[vc_row][vc_column][vc_column_text]
يقولون إن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. «في حالتي، ضرست أنا وأولادي أيضاً»، تقول منى.
«أنا ثمرة نزوة عابرة بين رجل وإمرأة غير مسؤولين. تظاهرا بالزواج، لكنهما لم يسجّلا زواجهما، ولم يسجلاني كمولود شرعي في دوائر النفوس. هذا يجعل مني «مكتومة القيد». هذا يعني أن لا جنسية محدّدة لي ولا أوراق ثبوتية لديّ ولا حق لي بالطبابة والتعلّم والعمل.
بعدما أنجبتني، زعمت والدتي أن زوجها طلّقها، وتركتني في عهدة خالتي كي ترعاني. لم أشعر يوماً بحب خالتي، ولا ألومها على ذلك. فأنا كنت، بالنسبة إليها، حِملاً ثقيلاً رمته أمي على عاتقها. لم أعرف في بيتها طريقاً إلى المدرسة كحال بقية الأولاد في عمري. في سن الثانية عشرة، أودعتني في بيت سِلفها لأعمل كخادمة. بقيت هناك سنتين. كنت في الرابعة عشرة عندما تعرّفت الى شاب في العشرين من العمر. الحب شعور لم أعرفه يوماً، لكنه أقنعني بأنه يحبّني. هربت معه. شهر واحد فقط كان عمر ذلك الحبّ. بعده، اكتشفت أنني كنت بالنسبة اليه مشروعاً مربحاً. أنزلني إلى بار في بيروت. كنت لا أزال قاصراً، والقاصر مرغوبة في مثل هذه الأماكن. بسرعة جمعت مبلغاً من المال، وأقمت في فندق صغير قرب البحر. هناك تعرفت الى «بترونة» عرضت عليّ العمل في بار تملكه فقبلت. استأجرت لي استوديو صغيراً، وكانت تخفيني عن عيون رجال التحرّي. كان عمري 17 سنة تقريباً عندما انتقلت للعمل في بار ثالث. هناك حملت من أحدهم. رفضت الاجهاض وأردت الاحتفاظ بالطفل. أنجبت فتاة أصبحت كل حياتي. كنت قد أصبحت راشدة عندما انتقلت للعمل في بار آخر، وهذه المرة برخصة كـ«ساقية». كان صاحب البار مدمناً على الكحول والقمار. عرض عليّ الزواج ووعدني بتسجيل ابنتي باسمه. تزوجنا وحملت منه بإبنة وإبن، الا ان المشاكل مع زوجته الاولى أخذت تكبر، فبدأ يقصّر في مصروف البيت ولم يعد يدفع ايجار الشقة. تراجع وضعنا المادي فعدت الى العمل في البار الذي يملكه زوجي. عام 2006 تراجع العمل بشكل كبير فأقفل البار. منذ ذلك الحين نعيش في وضع صعب. زوجي يعاني من السكري وبسبب ذلك فقد بصره، وهو يقيم مع زوجته الأولى وأبنائهما. أما أنا فمتروكة لقدر أسود: توفيت ابنتي الصغرى في حادث سير قبيل زواجها. ابنتي الكبرى أم لأربعة أطفال وتعيش في وضع مزرٍ. أما ابني فقد تورّط في استخدام المخدرات منذ كان في السابعة عشرة ودخل الى السجن بتلك التهمة. هو اليوم في الثالثة والعشرين وأراه ينطفئ أمام عينيّ. أنا اليوم في الخمسين من عمري. أعلم أنني لم أعد مرغوبة كما في السابق، ولا أنا أصلاً أرغب في العودة الى عملي السابق. لكن، أجد نفسي مضطرة إلى ذلك. فأنا لا أجيد أي عمل آخر. نعم «أنزل» أحياناً لأن لا معيل لي ولإبني. ولأنني جرّبت طرقاً أخرى لم تجد نفعاً.
ذهبت إلى جمعية تقدّم مساعدات عينية، سألتني الموظّفة التي كانت تملأ الاستمارة عن ظروف حياتي. عندما أخبرتها عن ماضيّ بدت على وجهها مظاهر الاستنكار. لم يعنِ لها شيئاً البؤس الذي أعيشه. قلت لها ان الظروف تتحكّم أحياناً بالانسان. لم تظهر أي تعاطف معي، بل بدت وكأنها تتشفّى مني. «الله يجيرنا وحسن خاتمتنا»، قالت. هل تعلم أنني أيضاً أخاف من الآخرة؟ قالت ان الانسان الذي يسير في طريق الخطأ ولا يرضي ربه، يتعذب في حياته وفي مماته، وانني بسبب عملي وماضيي لم اعرف كيف اربي ابني. ثم زادت، إن وفاة ابنتي وإدمان إبني عقاب من الله لي بسبب ماضيي. حسناً، هي لا تعرف ان حياتي عبارة عن عقاب مستمر منذ الولادة. أصدرت حكمها: «من له تاريخ مثلي لا يجب ان ينتهي به الامر بطلب مساعدة من الغير، الم نجمع ما يكفي من المال خلال السنوات؟» تكفي نظرة احتقار لتشعرك بأنك لا شيء. هذا تماماً ما شعرت به: أنا لا شيء. أحسستُ بالمذلة. ان الإحتقار والذل ليسوا دائماً بالصراخ والطرد، تكفي كلمة جارحة او نظرة حتى تشعر أنك ذليل.
هذه الموظفة قالت رأيها بي وبحياتي واسرتي وابني ولكنها لم تساعدني، قصدا ً. لم ترغب في مساعدتي. قالت أنها ستتصل بي عند توفر المساعدات. أخذت المعلومات وكتبت وانا لم استفد بشيء. لا شيء.
هذه القصة هي جزء من سلسلة قصص مستوحاة من واقع حياة عدد من السيّدات في لبنان يتم نشرها ضمن إطار مشروع “دعم حقوق النساء المهمّشات في لبنان”. يتم توثيق هذه الحالات من قبل كلٍ من جمعية العناية الصحيّة، جمعية عدل ورحمة وجمعية دار الأمل. تمّ تطوير هذه المنشورة بفضل دعم الشعب الأميركي من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). إنّ محتويات هذه المنشورة هي مسؤولية الإستشاري، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر أو آراء الوكالة الأميركية للتنمية أو حكومة الولايات المتحدة
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]